الكاتب – د.رمزي عودة – لم تضع الحرب أوزارها حتى الآن، العدوان الاسرائيلي مستمر على قطاع غزة، عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودين، البيوت والمباني دمرت، الابادة الجماعية حاضرة بقوة في المشهد. ومع ذلك، يبدو أن معركتنا ضد هذا العدوان في مواقع التواصل الاجتماعي تحقق انجازات كبيرة ومهمة ومؤثرة. ليس هذا فقط، وانما توسع استخدام الفلسطينيين لكافة مواقع التواصل الاجتماعي بشكل لافت ومغاير للحروب السابقة، وأصبح المحتوى الفلسطيني على التيك توك والفيسبوك والانستغرام والتويتر منتشر وحداثي وقادر على مخاطبة الرأي العام الغربي والتأثير عليه.
لقد اتسم المحتوى الفلسطيني في مواقع التواصل الاجتماعي بعدة سمات حداثية أهمها:
1 – مدته قصيرة لا تتعدى الدقيقة في معظم الحالات، وهذا يجعله غير ممل وسريعا وقادرا على التأثير والانتشار.
2- انساني، حيث ابتعد المحتوى الفلسطيني عن الشعارات السياسية الكبرى وتسييس الصراع وبدأ يقترب أكثر وأكثر من أنسنة الصراع، حيث اشتمل في الغالب على قصص إنسانية توضح معاناة المدنيين الفلسطينيين من العدوان الاسرائيلي، ومن الأمثلة المهمة على هذا المحتوى الانساني صور الجرح والأسر والنزوح والتجويع وحقوق الاطفال في الأمن والسكن واللعب والغذاء والدراسة، وبنفس السياق صورة الأم الفلسطينية النازحة التي تسكن في الخيم وترعى أطفالها في ظروف معيشية صعبة للغاية.
3 – واقعي، حيث يتم صنعه في الواقع المعيش مثل الخيم والشوارع والأحياء المدمرة وليس في استوديوهات أو أماكن معدة للتصوير.
4 – تأكيد صورة الفلسطيني الانسان بسماته الحضارية المتطورة. فعلى سبيل المثال يحاول صناع المحتوى في كثير من محتوياتهم تصوير أطفال يتحدثون باللغة الانجليزية، أو عائلات نازحة هي وقططهم أو كلابهم المنزلية. ومثل هذه النماذج تكون أقرب في ذهنية المشاهد الغربي الذي سرعان ما يكتشف بعد مشاهدة هذه المحتويات أن الأطفال الفلسطينيين يشبهون أطفالهم ويتصرفون ويتألمون مثلهم.
من زاوية أخرى، تتنوع مرجعية صناع المحتوى الفلسطيني في القطاع بين الصحفيين والنشطاء الاجتماعيين، وهذا يمكنهم أكثر في الوصول الى ملايين المشاهدات مقارنة بالفواعل السياسية. من جانب آخر، أصبح العديد من هؤلاء وسطاء متطوعين لتوزيع المساعدات على النازحين والجرحى، حيث ينشر صناع المحتوى قصصاً إنسانية لمعاناة النازحين، وسرعان ما يتلقون مساعدات عينية أو نقدية من متلقى المحتوى، ومن ثم يقومون بتسليمها لهؤلاء النازحين.
ومن أهم قصص النجاح التي قام بها صناع المحتوى الفلسطيني الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي ابراهيم بربخ ابن مدينة خان يونس الذي يتلقى يومياً آلاف الشواقل من المتبرعين ومن أرباح التك توك ويقوم بتوزيعها بشفافية على آلاف النازحين في مدينة رفح.
وبنفس السياق، المحتوى الذي قدته الصحفية اسراء البحيصي في دير البلح حول الطفل جود الذي بقي في خيمته وحيداً بعد أن سافرت أمه وأخته الجريحة الى مصر للعلاج، ونتيجة لنشر هذا المحتوى سارع العديد من النشطاء لترتيب سفره الى أمه في مصر.
وهنالك مئات بل آلاف من القصص الانسانية المشابهة التي نجح صناع المحتوى الفلسطينيون في معالجتها والتعامل معها. واشتملت هذه المعالجة الانسانية على توزيع الطرود الغذائية والمساعدات النقدية والعلاج وتوزيع الخيم والملابس على النازحين، وغيرها الكثير من القيم الانسانية الهامة التي أثبت بجدارة النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أنهم قادرون بجهودهم الفردية بأن يكونوا جزءاً هاماً من جهود الاغاثة في قطاع غزة، وليس فقط معزولين في عالمهم الافتراضي.
ان ما قدمه هؤلاء هو نموذج حي ومستمر وفاعل من نماذج توطين العالم الافتراضي بالعالم الواقعي وتسخيره لصالح حل الأزمات الانسانية لا سيما في وقت الصراع. انه بالفعل ثورة حقيقية فلسطينية لصالح تعزيز الرواية الفلسطينية في مختلف بقاع العالم من خلال ما يمكن تسميته بأنسنة الصراع.