بقلم: د. عبد المجيد سويلم
في واحدةٍ من أهمّ توصيفات علم السياسة والتي أعتبرها الأكثر عمقاً من حيث الجوهر والمضمون، أيضاً، التوصيف التالي:
السياسة كعلم هي أقرب إلى الجبر منها إلى الحساب.
ولو كانت السياسة كعلم أقرب إلى الحساب، ومعادلات الحساب لكانت الحياة أبسط مما هي عليه، ولكانت قيادة دفة الحكم وإدارة المجتمعات أسهل بكثير مما هو عليه واقع الأمور.
عندما يتمّ اختزال السياسة وحشرها في زاوية الحساب والحسابات البسيطة: واحد + واحد = 2، وسواء كان ذلك في منطق تفكير الأفراد والمجموعات أو الجماعات السياسية فإن كل «خروج» أو «انحراف» عن هذا المنطق وهذا النوع من المعادلات سيصنّف في دائرة الخطأ والممنوع، والمحظور والمحرّم، ويتحوّل مقياس الصواب إلى درجة الالتزام، بهذه المعادلات، ويصبح المباح والمتاح والممكن وكذلك الضروري والمحقّ هو مدى قرب أو بعد السياسة عن هذا النطاق وعن هذه الدائرة من الحسابات المبسّطة.
أمّا معادلات علم الجبر فهي حتى وإن كانت المعادلات الحسابية واحدة من أدواتها إلاّ أنها (معادلات علم الجبر) تتجاوز المعادلات الحسابية، لأنها تنطوي على الافتراضات المركّبة وعلى سيناريوهات مختلفة فيها قدر كبير من «المراوغات» المنطقية للوصول إلى الإجابات الصحيحة والعلمية.
وفي علم السياسة «المتحرّر» من بعض الأكاديميات الصارمة يكون الحساب الحقيقي هو حساب الانطلاق من موازين الواقع وليس من أي موازين مرغوبة أو متخيّلة بهدف تغيير هذا الواقع. وهذه هي معادلة ميزان القوى الحقيقي.
وبما أن الانتقال من واقع إلى واقع جديد يحتاج إلى حشد للطاقات المتوفرة والكامنة، فإن حشد هذه الطاقات يحتاج إلى سياسات التحالف والمشاركة والائتلافات وأطر هذا التحشيد ومؤسساته، وهذه هي معادلة سياسة إدارة الموارد والتحالف.
هذه المعادلة هي داخلية وطنية، وخارجية، إقليمية ودولية، وهي معادلة تنطوي على عناصر مركّبة للغاية وتدخل فيها معادلة المصالح التي تتفوق على معادلة الحقّ والعدل والمبادئ والشرعيات في معظم الحالات، وأغلب المناسبات بما في ذلك المواقف المصيرية والحاسمة.
ومعادلات الحساب هي موقف أو مواقف مجرّدة، أو متجرّدة أو حتى «مستجردة» من الواقع الملموس، وتهدف إلى «قلب» ذلك «الواقع» المجرد وليس الملموس.
أي أن الموقف يحل في مكان الفاعل الاجتماعي، والانقلاب في الموقف نفسه هو الذي يحل ملموسية الواقع المنطلق وملموسية الواقع المتخيل.
في علم الجبر المعادلة مختلفة. الانطلاق من معطيات واقعية وملموسة والعمل على حشد الطاقات لتغييره في إطار عملية معقدة من تشابك المعطيات والمصالح والمواقف.
معادلة الحساب السياسية تركز على النحت اللغوي واللفظي، والتحديد هو بالأساس إنشائي، ولذلك فإن مواقف «الحساب» هي مواقف تنزع نحو وقع اللفظ، فنلاحظ مثلاً البحث عن «الدويّ» الذي يحدثه اللفظ، والدلالة سمعية، إيقاعية أكثر مما هي دلالة تغييرية تراكمية في الجوهر الواقعي.
أوردتُ هذه المقدمة الطويلة لكي أحاول قراءة القرارات الفلسطينية «بالتحلّل» من اتفاقيات أوسلو، بعيداً عن معطيات مجردة وواقع مجرد ومواقف مجردة لا تنتمي إلى معادلة الصراع ومعطياته.
الحقيقة الغائبة والمغيّبة حول معادلة الصراع عند أهل الجُمل الثورية الرنّانة والمواقف «الكبيرة والعظيمة» لدلالات اللفظ واللغة وهي ميزان القوى الحقيقي للصراع.
دعونا هنا نستذكر ما كان قد كتبه المفكر المصري الكبير عبد الوهاب المسيري صاحب الموسوعة الشهيرة عن اليهودية والصهيونية وإسرائيل حيث قال: إسرائيل نشأت وتطوّرت وتفوّقت بفعل عاملين اثنين: الدعم الغربي المطلق والضعف العربي المطلق.
وأضيف أنا إلى ذلك، أي إلى هذين العاملين الضعف الفلسطيني الداخلي، لأن الانقسام هو أكبر اختراق استراتيجي صهيوني للمشروع الوطني الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم.
بالعودة إلى منشأ الصراع فقد «طبخ» الغرب المشروع الصهيوني في فلسطين انطلاقاً من مصالحه الاستراتيجية المعروفة حول ثروات المنطقة وموقعها وثقافتها الخاصة، «وأخطار» هذه الثروات والمواقع والممرات والثقافة على مشروع الهيمنة الغربي.
لإنجاز هذا المشروع، في ظل تحلّل الإمبراطورية العثمانية، وفي ظل هشاشة الدولة القومية الناشئة في الإقليم العربي وتبعيتها، وفي ظل انعدام القدرات الخاصة الفلسطينية وضعفها.
وعندما «شاخت» بريطانيا انتقل محور الدعم والإسناد المطلق من بريطانيا إلى الولايات المتحدة ـ ولم يكن هذا الانتقال بين ليلةٍ وضحاها ـ ومعها وخلفها وإلى جانبها الغرب الرأسمالي من دون استثناء.. حتى الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية لم تتخذ موقفاً حازماً من إسرائيل، ودورها وخطورتها إلاّ في مراحل لاحقة، وبعدما توفر العامل القومي القيادي الجديد ممثلاً بالقيادة الناصرية، وقبل أن تبادر حركة فتح بانطلاق الثورة المعاصرة والبدء الفعلي بترميم الحالة الفلسطينية وإطلاقها لمشروع التحرر الوطني المعاصر.
وعندما أقدمت وتقدمت القيادة الفلسطينية بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو كانت تراهن على أن هذه الاتفاقية بالذات يمكن أن توفر لها ـ أي القيادة ـ فرصة صغيرة وربما محدودة للتخلص من «تحلّل» العالم العربي من تحمّل مسؤوليات القضية الفلسطينية، وعلى نقل مركز الصراع إلى الداخل، والمراهنة من خلال المفاوضات على إقامة دولة فلسطينية، أو هكذا رأت القيادة الأمور في حينه.
وإذا كان متعذّراً قيام هذه الدولة بسبب الإجماع الصهيوني والدعم الأميركي لهذا الإجماع، فقد راهنت القيادة الفلسطينية على «استراحة» استراتيجية من شأنها خلق وقائع جديدة، تعيد القضية الوطنية إلى جدول أعمال العالم، بدعم عربي كامل، ما سيكون مدخلاً مباشراً لاختراق الإجماع الصهيوني، واختراق الدعم الأميركي والغربي المطلق لإسرائيل.
أما نتيجة هذه الاتفاقيات على الأرض فقد كانت فرصة كبيرة لإسرائيل للتغطية على القضم والاستيطان والتهويد، وما حققناه على صعيد سياسي دولياً ـ وهو كبير وهام ـ لا يوازي ما خسرناه على الأرض، وما خسرنا من تآكل في مشروعنا الوطني، وما وصلنا إليه من حالة تصدع كبير في وضعنا الداخلي، وخصوصاً بعد الانقلاب وتكريس حالة الانقسام.
لم يكن متاحاً ولا واقعياً التحلّل من اتفاقيات أوسلو لمجرد أن إسرائيل تمعن في سياسات التهويد والاستيطان، لأن هذه الاتفاقيات كانت انتقالية، ولأن المفاوضات التي أعقبت نهاية المرحلة الانتقالية في «كامب ديفيد» قد أعقبها اندلاع الانتفاضة الثانية، ثم أعقبها الاجتياح الشامل، فـ»خارطة الطريق»، ثم الاجتياحات والحروب على غزة ثم الانقسام، ثم المحاولات الأخيرة في «أنابوليس» والمفاوضات القصيرة مع أولمرت.
ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا تواصل الاستيطان وتعمّق التهويد وانتهت المفاوضات وتحول التخلص من أوسلو إلى مطلب سياسي وطني كبير دون أن «تنضج» بالكامل ظروف التحلّل منه.
استخدمت القيادة منطق التهديد بهذا التحلّل «وماطلت» لأنها لا تريد ولا ترغب بأن يتم تحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية هذا القرار وانتظرت ـ وأنا أرى أنها فعلت خيراً ـ حتى يتم كسر هذه المعادلة، وحتى تتمكن القيادة من تحويل قرار التخلص من هذه الاتفاقيات إلى قيد وضغط على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة.
قرارات مساء الثلاثاء حكيمة ومدروسة ويخطئ كثيراً من يظنّ أن المسألة كانت انتظارية مرتجلة.
لكنها ما زالت تحتاج إلى آليات عمل وإلى قرارات أخرى في صلبها علاقة المنظمة بالسلطة، ووظائف السلطة ودورها، وغزة وموقعها في تنفيذ مخطط التصفية وغيرها من المسائل.
كما أن المواقف المطلوبة حيال ردود الأفعال الإسرائيلية ما زالت بحاجة إلى بلورة بعد دراسة وتمحيص.
هذه المسائل بما عليها من أهمية ومن ملموسية ستكون موضوع المقال القادم.