جردة حساب بعد مئة يوم على الحرب

15 يناير 2024آخر تحديث :
جردة حساب بعد مئة يوم على الحرب
جردة حساب بعد مئة يوم على الحرب
جردة حساب بعد مئة يوم على الحرب

الكاتب – د.عبد المجيد سويلم – لا أعرف من أين، وكيف جاء تقليد الـ»مئة يوم» المتداول، والمعمول به على نطاقٍ واسع في «الغرب»، وفي بعض مناطق وبلدان العالم.
عادة ما يتمّ الحديث عن أهمية هذا المقياس بعد استلام الرؤساء لمهامهم الجديدة، أو بعد تشكيل الحكومات الجديدة، وأحياناً يتمّ لتقييم الأداء في تحقيق الأهداف، وأحياناً يُنظر إلى هذه الفترة بالذات كمؤشّر رئيس على استشراف مسار هذا التقييم.
لا تستخدم هذه الفترة في قياس مسار الحروب لأنّها فترة طويلة نسبياً، خصوصاً أنّ الحروب الحديثة قد تُحسم قبل مضيّ هذه الفترة، ولكنها مع ذلك تتحوّل إذا طالت الحرب إلى أكثر من مؤشّر، وإلى أكبر من مقياس.
إذا ما بدأنا بحركة حماس فإنّها ومعها فصائل المقاومة في قطاع غزّة صمدت بصورة أسطورية، وهي تواجه هجوماً إسرائيلياً متواصلاً بكلّ أنواع الأسلحة، وعلى مدار السّاعة، في حربٍ تجاوزت كلّ الحدود من القتل والتدمير والإبادة، وإنهاء كلّ مظهر للحياة في القطاع، لكن الأهمّ هو أنّ «حماس» أرادت من خلال هجومها الكاسح في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل أن تُجبر إسرائيل على رفع الحصار عن القطاع، وأن تنسف القاعدة التي كان يسير عليها مسار «التطبيع»، ليس فقط بسبب أنّ هذا المسار كان يهدّد بتجاوز الحقوق الوطنية، وتصفية القضية الوطنية ــ في حال استمراره ونجاحه ــ وإنّما لأنّ «نجاح» هذا المسار كان يقتضي بالضرورة إنهاء ظاهرة الوجود المسلّح في القطاع، وبالتالي إنهاء سيطرة «حماس» على القطاع، إمّا بالنزع الطوعي لهذا السلاح أو بالوسائل العسكرية، ومن هنا فقد هدفت «حماس» من هجومها إلى ضرب كامل هذا المسار.
إضافة إلى ذلك فقد أرادت «حماس» في حال نجاح هجومها أن تعيد قضية الأسرى على جدول الأعمال، وأن تضع حدّاً لمسار استباحة المسجد الأقصى، ومسار تكريس التهويد والاستيطان، وكلّ سياسات الاحتلال في الضفّة الغربية.
كان يجب على «حماس» أن تنجح إذا ما أرادت أن تحقّق كلّ ذلك، وكان على هجومها أن يكون دقيقاً في حسابات التخطيط، وفي حسابات التنفيذ، وفي التعامل مع ردود أفعال الاحتلال، وإدخال هذا الاحتلال في «ممرّ» الدخول إلى غزّة، ونشر قوّاته البرّية فيها.
وكان يجب من أجل أن تنجح أن تحقّق عنصر المباغتة، وأن يكون الهجوم بمثابة ضربة سيطرة، وشلّ قوات الاحتلال الإسرائيلية وإحداث صدمة كبيرة في صفوفها، بحيث تنهار سريعاً، وتسقط بسرعة مذهلة مسألة الجيش الذي لا يُقهر، وتسقط مسألة الردع بسرعة أكبر، وأن تنهار كلّ أدوات التجسُّس والمراقبة ومعدّات التتبُّع والسيطرة الإلكترونية.
بهذه المعاني كلّها فقد اهتزّ مسار «التطبيع»، وعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة كلّ الواجهات، ولم يعد في هذا العالم من يمتلك شجاعة الحديث عن حلول دون الأهداف الوطنية، أو على حسابها، أو على أنقاضها، ولم يعد ممكناً الحديث عن مستقبل القطاع في ظلّ أيّ حصار، وأصبح الحديث عن تدمير «حماس» أو المقاومة في القطاع حديثاً أقرب إلى «المجازية السياسية»، وأصبح مستقبل الحياة السياسية في القطاع شديد الارتباط بمدى ما وصلت إليه إسرائيل من فشل، وما تعانيه من إخفاقات لم تعد خافية.
قلنا بعد الأسبوعين الأوّلين من بدء الحرب البرّية على صفحات «الأيّام»، «إنّ من انتصر قد انتصر، وإنّ من هُزم قد هُزم»، وكلّ يوم من كل ما سيتبقّى من هذه الحرب هو فقط للتدمير والقتل والانتقام والإجرام، وهو يتمّ «لصالح» القيادات الإسرائيلية التي فشلت وأخفقت قبل هجوم «حماس»، وفشلت وأخفقت بعده بأضعاف مضاعفة.
تمرّدت «حماس» على حصار الاحتلال ووسيلته لإخضاعها، وكسرت الطوق عن نفسها، وأعادت حضورها من موقع كسر هذا الطوق وليس بالاستجابة لمقتضياته.
بكلّ هذه المعاني فقد تجاوزت «حماس» وفصائل المقاومة حاجز المائة يوم بنجاح، مع أنّ الأزمة التي نجمت عن هذه الحرب ستكون أزمة كبيرة وطويلة وذلك بسبب ثقل وفداحة الثمن الذي دُفع حتى الآن فيها، وما يمكن أن يُدفع مع استمرارها.
تُعلّمنا التجربة الخاصة بتاريخ الصراعات والحروب أنّ أخطر أنواع الحروب ليس تلك التي تولّد الكوارث والخسائر الكبيرة، أو التي تدفع فيها الأثمان الباهظة ــ على أهمية كلّ ذلك ــ وإنّما تلك الحروب التي تُخاض دون أهداف حقيقية، ودون قدرة على تحقيقها، أو أن تكون الأهداف غير المعلنة منها هي الأهداف الحقيقية، وليست المعلنة.
بعد مئة يوم من هذه الحرب لم يتم اجتثاث «حماس»، ولا تدمير مقوّماتها العسكرية، ولم تتفكّك بناها التنظيمية، وما زالت تشكّل تهديداً للاحتلال، وأعادت فرض نفسها على الواقع بقوّة أكبر من السابق، وحقّقت وهي تستمر في تحقيق أهدافها تباعاً، وتتراجع كل الاستهدافات التي أرادت لها أن تتراجع أو تنزوي إلى الخلف، وتقدّمت كل الاستهدافات التي أرادت لها أن تتقدّم.
والأهمّ من ذلك كلّه هو الخسائر الإسرائيلية.
فإضافة إلى تراجع صورة الجيش، وتحوّل الردع الإسرائيلي إلى مجال واحد ووحيد وهو الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وتدمير أو محاولة التدمير، وتحويل المدنيّين إلى أهداف عسكرية و»استراتيجية» فقد خسرت إسرائيل حتى الآن الآلاف من جنودها وجرحاها ومُعوّقيها، وعشرات الآلاف من حالات الاضطراب النفسي، وتفكّك «قوّات النُخبة».
كما خسرت حتى الآن أكثر من ألف آليةٍ عسكرية، وتضررت عشرات المستوطنات، ولديها الآن أكثر من أربعمائة ألف «نازح»، وغادرها حسب بعض المعطيات أكثر من نصف مليون.
وعلى الصعيد الاقتصادي ضُربت قطاعات بكاملها، وخصوصاً «الزراعة» و»السياحة»، وتراجعت «الصناعة» بشكلٍ ملحوظ، ووُجّهت ضربة كبيرة لشركات التكنولوجيا الرفيعة، والصناعات الأمنية والعسكرية، وما زال حبل الخسائر الاقتصادية على الجرّار السريع.
وبالرغم من «الفزعة» الأميركية و»الغربية» التي «تمتّعت» بها إسرائيل في الأسبوعين الأوّلين للحرب، إلّا أنّها انتهت إلى انهيارٍ كامل في صورتها الدولية، وإلى تحوّلها في نظر عشرات، بل ومئات الملايين في العالم إلى دولةٍ مارقة، وإلى دولة قاتلة وشرّيرة لا تتورّع عن ارتكاب المجازر، والقتل الجماعي، وإبادة السكّان، وتقديمها لمحكمة العدل الدولية هو أكبر دليلٍ على هذا الواقع.
وأمّا حالتها السياسية فحدّث ولا حَرَج.
وهنا فإنّ إسرائيل قد سجّلت أرقاماً قياسية غير مسبوقة في تاريخ الدولة والشعوب، وليست مسبوقة في تاريخ دولة الاحتلال طبعاً. فهذه هي المرّة الأولى التي يبدأ، ويعود فيها المجتمع للتصدُّع في أثناء الحرب، وهذه هي المرّة الأولى التي تخرج بها قطاعات واسعة تطالب بإسقاط القيادة التي تقود الحرب، وهذه هي المرّة الأولى التي يختلف فيها الجميع مع الجميع، وهذه هي المرّة الفريدة الوحيدة التي يخرج فيها عضو من «مجلس الحرب» ليشارك في تظاهرة لإسقاط المجلس والحكومة، وكلّ القائمين على القرار السياسي والعسكري في دولة الاحتلال.
مئات وعشرات وآلاف من قادة إسرائيل السّابقين، وفي أعلى المناصب ومراكز القرار يطالبون بإنقاذ الدولة قبل الانهيار، ولم يعد أحد منهم يأمل بأكثر من ذلك.
بعد أكثر من مئة يوم من هذه الحرب، ومن هذه الوقائع، ومن كلّ الحقائق التي أفرزتها هذه الحرب، ما زال في دولة الاحتلال من يقول في مؤتمرات ضمنية إنّ كلّ شيء على ما يُرام، وإنّ الأمور ماضية نحو تحقيق أهداف الحرب.

الاخبار العاجلة