هذه حربٌ ما كان يجب أن تقع

28 فبراير 2022آخر تحديث :
هذه حربٌ ما كان يجب أن تقع
هذه حربٌ ما كان يجب أن تقع

صوت الشباب 28-02-2022  د. عبد المجيد سويلم   مع بوادر الحديث عن التوصل إلى توافق على إجراء مفاوضات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا، هناك الكثير الكثير من الحقائق المغيّبة، والوقائع الخفيّة والمخفيّة.
الغرب، وأقولها بكل وضوح كان يمكن له لو أراد أن ينزع فتيلها، ومنذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية على مدار الشهور الأخيرة عمل الغرب بدلاً من ذلك على إذكاء نارها وتأجيجها.
فلو كان الغرب جاداً في منع الانزلاق نحو هذه الحرب فما منعه من إعطاء موسكو الضمانات التي كانت تطالب بها.
وإذا كان الغرب كما يدّعي، الآن، بأن عضوية أوكرانيا في “حلف الناتو” لم تكن في موضع الإجماع والتوافق ـ وهو أمرٌ حقيقي فعلاً ـ فلماذا إذاً أوحى بعكس ذلك، وتملّص من مطالبات موسكو، وتظاهر بالغموض، بل وجاهر بأن أوكرانيا لها الحق الكامل في هذا الانضمام، ولم يوعز للنظام التابع لهذا الغرب بالتهدئة، وبالابتعاد عن كل ما يثير قلق الروس ويثير مخاوفهم؟ هذا كلّه أوّلاً.
وثانياً، إذا كان الغرب يرى أن روسيا ستغزو أوكرانيا بدليل حشدها لقوات كبيرة على الحدود الروسية الأوكرانية، وكان “واثقاً” من هذا الغزو، فلماذا ترك الأمور لتسير بهذا الاتجاه وهو يدرك ويعرف حق المعرفة (أي الغرب) أن أوكرانيا ستقع فريسة لهذا الغزو، وأن روسيا ستدمّر البنية العسكرية للجيش الأوكراني، وستحاصر المدن الرئيسة، وتحتل كل المراكز الحيوية في الجغرافيا الأوكرانية، وستشرد مئات الآلاف منهم، وقد تلحق خسائر كبيرة في صفوف المدنيين حتى ولو حاولت تجنّب ذلك، وذلك لأن الحرب هي الحرب، ولا يستطيع أي جيش في العالم تجنبها أو تفاديها بالكامل.
لماذا ترك الغرب أوكرانيا تحت النار، وانغمس في هستيريا العقوبات بعيداً عن أهوال الحرب وآثارها “المدمّرة” على الشعب الأوكراني؟
ألا يثبت ذلك بوضوح تام لكلّ عاقل، وكل منصف، وكل من يبحث عن منطق الحق والعدل والتفكير المسؤول أن هدف الغرب الرئيس ليس حماية أوكرانيا الدولة، ولا أوكرانيا الشعب والجيش، وإنما محاولة كسر الحلقة الروسية من خلال هذا الشلّال المتدافع من العقوبات؟
ألم يقل الرئيس الأوكراني قبل اختفائه من على منابر ومنصات التواصل، ووسائل الإعلام: تُركنا نواجه مصيرنا بأنفسنا ؟
ثالثاً، الغرب بكل وقاحة ورّط أوكرانيا لكي يصطاد روسيا، وضحّى بها على مذبح مصالحه الخاصة، وترك أوكرانيا مهشّمة كما هي الآن، وكما ستكون هزيلة وواهنة خلال عدة أيام فقط.
وهل عدة أطنان من الأسلحة التي يسارع الغرب ويتسابق للإعلان عن إرسالها إلى أوكرانيا ستوقف الزحف الروسي؟ أم أن الهدف الحقيقي هو محاولة شنّ حرب استنزاف على القوات الروسية بعد أن فقد الجيش الأوكراني مقوّمات تماسكه، وبعد أن تمّ تدمير أكثر من ألف قاعدة عسكرية لقواته، وبعد أن فقد كل أو معظم مراكز السيطرة والتحكّم لديه؟
أليس الهدف هو إطالة أمد هذه الحرب بعد أن هربت القيادة الأوكرانية وأصبحت البلديات هي الهيئات التي “تتحكّم” بمقاليد أو ما يشبه مقاليد الحكم في أوكرانيا؟
رابعاً، إذا كان الغرب جادّاً في إنقاذ ما يمكن إنقاذه على الأقل، فلماذا يُعطى للرئيس الأوكراني الغرّ كل هذه الهوامش للتنصّل من الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لعل وعسى يتمكن من “التفاهم” مع الروس على شروط مقبولة للطرفين، وبما يبدّد مخاوف الروس ويحفظ لأوكرانيا ما تبقّى منها ومن كرامتها؟
فمن سيصدق الغرب أن كل ما يجري من حمّى وهستيريا وتدافع لفرض عقوبات على روسيا بهذا القدر وهذا الشمول، وهذا الإصرار هو من أجل عيون أوكرانيا؟
ولماذا لم نجد واحداً على ألف من هذه الحمّى والهستيريا والتدافع ضد إسرائيل التي تحتل الأرض الفلسطينية ـ حسب القانون الدولي الذي يتشدّق به الغرب ـ منذ أكثر من خمسة وخمسين عاماً، ولماذا لم نسمع ولو صوتاً واحداً من كل هذا الغرب ينادي ولو بعقوبة واحدة ضد إسرائيل حتى ولو كانت هذه العقوبة تتعلق بتصدير الجوارب أو استيراد أكياس القمامة؟
وماذا عن تدمير العراق وسورية وليبيا، وماذا عن تدمير الصومال وأفغانستان، وماذا عن تدمير وحصار قطاع غزة، وماذا عن احتلال بنما بسبب جرح طالب جامعي أميركي، ثم ماذا عن أكثر من تمويل وإسناد أكثر من أربعين انقلاباً في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية من قبل الولايات المتحدة والغرب، بل وماذا عن تمويل انقلابات عسكرية في تركيا واليونان، ولماذا لم يتحدث الغرب بكلمة واحدة منذ أكثر من نصف قرن عن سلخ تركيا للقسم التركي من قبرص، وماذا فعل الغرب عندما أعلن عن ضمّ القدس والجولان، ألم تبادر الولايات المتحدة بنفسها لهذا الضمّ؟
نسوق كل هذا للتذكير بالازدواجية الصارخة للمعايير، وكذلك النفاق والكذب والخداع الذي يمارسه الغرب مدجّجاً بترسانة إعلامية تمتهن التضليل “إلاّ من رحم ربي”.
مصطلح الحرب نفسه ينطوي على هذا التضليل لأن الواقع يقول إ الطرف الأوكراني من هذه الحرب لا يمتلك، أو لم يعد يمتلك أهلية أن يكون الطرف الآخر فيها، والذي يجري الآن هو “تشطيب” العملية العسكرية الروسية من زاوية الإطباق الكامل على العاصمة، والانتهاء من السيطرة الكاملة على كل المدن الرئيسة في أوكرانيا، وعلى كل بقعة حساسة في أوكرانيا.
الذي يجري الآن هو البحث عن تفاوض سياسي على وقع العملية العسكرية الروسية لإيجاد بديل سياسي عن القيادة الأوكرانية، أو لقبول هذه القيادة بالشروط الروسية، وليس هناك أي مجال آخر على الإطلاق.
فإذا كان هناك من حرب فقد وضعت أوزارها، ولم يعد هناك سوى الإعلان عن انتهائها خلال يومين أو ثلاثة أيام، بصرف النظر عن التوصل إلى توافق على التفاوض من عدمه، وبصرف النظر عن الجهة التي ستجلس إلى طاولة المفاوضات.
باختصار هناك أوكرانيا قادمة على جدول الأعمال غير أوكرانيا التي كانت حتى الآن ومن يعتقد أن أوكرانيا التي نعرفها ستعود للتفاوض مع روسيا فهو في ضلالٍ مبين، وهو ضحيّة من ضحايا ترسانة الإعلام الغربي، ومن ضحايا القنوات الفضائية العربية التابعة.
روسيا تدفع ثمناً باهظاً لهذه الحرب، وستكلف هذه الحرب الاقتصاد الروسي خسائر كبيرة وكبيرة جداً، ناهيكم عن الخسائر البشرية، لكن روسيا كانت تعرف كل ما قام به الغرب وما سيقوم به الغرب، وهي أقدمت على ما أقدمت عليه بعد حسابات عميقة ودقيقة. لعلّ ما يشغل كل متتبع منصف لهذه الحرب أن يسأل السؤال الآتي:
هل تم استدراج روسيا إلى هذه الحرب، وهل تمكن الغرب من خداع روسيا؟
في مقال قادم سأُحاول الإجابة عن هذا السؤال الكبير، ولكني أقول سلفاً، الآتي:
لفت انتباهي قول الرئيس الروسي بوتين: في السابق الغرب خدعنا في ليبيا والعراق وسورية وأماكن أخرى، اليوم لن يتمكنوا من ذلك!
الحلف الجديد مقابل الغرب على الأبواب، والعقوبات مهما كانت مؤلمة لروسيا سترتدّ على الغرب بأكثر مما تحاول الترسانة الإعلامية الغربية التستّر عليها وإخفاءها، وكل هذه التطورات الكبيرة ستكون على أجندة المقالات القادمة.

الاخبار العاجلة